يعد المسجد العتيق للحي البرتغالي بالجديدة تحفة هندسية مميزة جمعت بين الجمال و البساطة . و ربما كان أول مسجد بني بالمدينة قبل 197 سنة تقريبا أي سنة 1823، بينما كانت المعابد الأخرى بالمدينة القديمة عبارة عن كنائس وبيع يتعبد فيها المعمرون الأوروبيون و اليهود المغاربة المستقدمين من آزمور و آسفي، و الذين استقروا بالحي البرتغالي ابتداء من سنة 1786 ميلادية . و في هذا الصدد، فحسب ما ذكر المولى عبد السلام في ” درة السلوك من آثار أبيه السلطان سيدي محمد بن عبد الله” بخصوص البريجة (…كانت قديما بأيدي الروم كما قدمنا. و خربها بعد الفتح سنة اثنين و ثمانين (1769م)، و أمر بتجديد عمارتها سنة واحد ومائتين وألف هجرية  (24 أكتوبر  1786- 12 أكتوبر 1787) ، واتخذ بها ألفا من العسكر من جنود الوصفان، وأدار سورها وعظم بها العمران، فصارت إحدى مدن المغرب، يقصدها التجار من الآفاق، وترد إليها القوافل والرفاق، وترسى بها السفن الجهادية وسفن التجار، فجاءت من  أشرف الحسنات وأعظم الآثار). و قد أشرف فيما بعد، و من جديد، عامل المدينة الشريف سيدي محمد بن الطيب على ترميم و ٳصلاح الحي البرتغالي برمته.و ذلك سنة 1832 ميلادية ، بأمر من السلطان العلوي مولاي عبد الرحمان بن هشام.

المسجد –الذي بني في موقع مربط للخيول – أقيم فوق مساحة تصل ٳلى حوالي 1200 متر مربع، منها قاعة للصلاة مغطاة مساحتها حوالي 750 متر مربع وقاعة للصلاة مخصصة للنساء مساحتها حوالي 120  متر مربع ٬ بالإضافة إلى مرفق خارجي صحي و فضاء داخلي  للوضوء مساحتهما حوالي 50 متر مربع٬ ومجموعة من الملحقات…

و قد كانت في البداية للمسجد صومعة صغيرة و قصيرة مربعة الأضلاع ذات ارتفاع متوسط، ، و هي أصغر و أقصر  مئذنة بالمدينة، لكنها تتفرد بتصميم هندسي مميز. وهي موجودة و قائمة لحد الآن. و يمكن  للمرء  أن يراها و هو يمر بالزقاق المؤدي ٳلى الزاوية العيساوية و الواجهة الخلفية للمسجد أو من فوق أسطح المباني المجاورة.

و بما أن هذه المئذنة لا تفي بالغرض من حيث سماع صوت المؤذن نظرا لقصرها، فقد اتصل بعض المواطنين القاطنين بالملاح بعامل الجديدة آنذاك السيد محمد بن ٳدريس الجيراري،  و طلبوا منه أن يلتمس من السلطان مولاي الحسن الأول باستغلال البرج المعروف ببرج الرباط كصومعة لكي يتسنى لسكان الملاح سماع الآذان. و فعلا، و بأمر من السلطان العلوي مولاي الحسن الأول، حول ٳ لى مئذنة أحد أبراج المراقبة للحصن الأول للقلعة البرتغالية- المبني سنتي 1510 و 1514 و المعروف عند العامة ببرج الرباط نسبة  ٳ لى مربط للخيول  الذي بني فوق أرضه المسجد . و ذلك سنة 1297 هجرية الموافق 1880 ميلادية. وهي الصومعة الحالية المجاورة للمسجد. و هي الوحيدة في المغرب التي هي خماسية الأضلاع.و يربط الصومعة بالمسجد جسر يمر فوق قاعة الوضوء و المراحيض الموجودة غرب المسجد.

و لا يزال الجزء القديم للمسجد محافظا على هندسته الإسلامية المغربية إلى غاية اليوم. و كانت أهم عملية للترميم شهدها هذا المسجد قد تمت سنة 1996، بمبادرة من عامل ٳقليم الجديدة آنذاك السيد أحمد عرفة.  و قد حملت هذه العملية نفس مواصفات القسم القديم، من حيث نوعية البناء و القباب و النوافذ و الأبواب و السَقْف. و أدخلت عليه بعض التصاميم الحديثة، لكنها لم تفقده قيمته التاريخية و الأثرية الثمينة. 

و من جهة أخرى، فقد حظي المسجد العتيق بالحي البرتغالي بالجديدة بزيارة السلطان العلوي مولاي الحسن الأول سنة 1875 م، كما زاره جلالة الملك محمد الخامس سنة 1936 م. و قصده أيضا عدة شخصيات أخرى قادمة من داخل و خارج الوطن. 

المسجد العتيق للحي البرتغالي بالجديدة أو “جامع الملاح”، كما دأب أهل الجديدة على تسميته، لم يكن مجرد بناية تقام فيها الصلوات الخمس، ويرتل فيها القرآن الكريم، ويتعلم فيها الأفراد شؤون الدين والقراءة والكتابة… ، بل كانت هذه المعلمة الحضارية الشامخة ، فضلا عما سبقت الإشارة إليه، عبارة عن مؤسسة جامعية لتلقين مختلف التخصصات الأدبية والعلمية، حيث كان يشرف على الحلقات الدراسية بالمسجد صفوة من العلماء المرموقين من داخل المغرب وخارجه من بينهم العلامة الحاج أحمد بن صالح الحسني الٳدريسي الجديدي المعروف بسيدي أحمد النخل و العلامة أبي شعيب بن محمد بن زيد الدكالي و العلامة السي أحمد التباري و العالم المطلع الخطيب الفصيح سيدي سعيد بن أحمد المعروف بابن الهيبة الدكالي البوعزيزي و الشيخ الفقيه الحاج سيدي ادريس بن المختار التاشفيني و العلامة محمد بن أحمد بن المعطي الحطاب الدكالي الفرجي و العلامة المحدث محمد بن إدريس بن محمد القادري و العلامة مولاي أحمد بن سيدي محمد البحياوي الصديقي… ، وكان هؤلاء العلماء الأجلاء يعطون دروسا وعظية بهذا المسجد، خصوصا في شهر رمضان الكريم، كما كان يتلقى الأطفال في مسيده مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وبعض المتون الأولية. كما كان يفد عليه طلبة العلم من الداخل والخارج. أما أول ٳمام عين لهذا المسجد فهو الفقيه الحاج لحسن بن أحمد السوسي دفين مقبرة سيدي أحمد النخل. ثم أسندت الٳمامة لعدة فقهاء أبرزهم السي علي بن الطاهر البوعزيزي و السي عبد الرحمان بن ٳبراهيم الشتوكي و السي عبد العزيز بن التونسي و الحاج محمد بن بوشعيب السرغيني … و السي أحمد بن التومية…

خلاصة القول، ٳن المسجد العتيق للحي البرتغالي بالجديدة،  أو “جامع الملاح”، يعد ذاكرة متميزة ومعلمة تاريخية شاهدة على جانب كبير من تاريخ مدينة الجديدة/مزاغان وتطورها العمراني، ومنارة علمية توهجت بما ضمته من حلقات متواصلة للعلم والتدريس و الوعظ،،  وبما تعاقب عليها من علماء وفقهاء ومشايخ من كل الآفاق، وبما تميزت به هذه المنارة من دور في التسامح و التساكن و التعايش، لآنه ـ كما لا يخفى على أحدـ هذا المسجد يأتي في موقع يحاذي الكنيسة البرتغالية، كما يجاور بعض بيع اليهود .. وفي ذلك تعبير صريح وواضح عن شيمة مترسخة ومتوارثة في أهل مدينة الجديدة/مزاغان جيلا عن جيل وهي روح التسامح و التساكن والتعايش.