“ميزان الميلودي” أو تمرد الأسئلة
كتابة: رشيد بلفقيه
قدمت “جمعية ملتقى الثقافات” بمسرح عفيفي مسرحية “ميزان الميلودي” تأليف مسكيني الصغير، إعداد وإخراج مصطفى بوعسرية زنات، وتشخيص مصطفى فنيش.
تروي المسرحية في قالب مونودرامي حكاية “الميلودي” الذي اختار المنفى الاختياري بالمدينة هربا من ظلم أهل قبيلته الذين سلبوه أرضه، وحبه لـ”حادة”، وأحلامه جميعها، مستغلين يُتمه وصغر سنه، ثم سخّروه لخدمتهم بدون مقابل، ليقرّر الهرب من ذلك القهر والاستغلال، والتحول إلى لاجئ بشوارع مدينة ما لا يملك فيها إلا عربته التي يتخذها متجرا للبيع والشراء على قارعة الطريق، ومأوى في الوقت نفسه “مثل السلحفاة تماما” حسب تشبيهه البليغ، ورغم شظف عيشه واستغنائه عن الكثير من كماليات الحياة يظل مطاردا يتعرض لمضايقات من نوع آخر تطالبه بإخلاء ذلك الشارع أيضا، وتدفعه بالتدريج إلى الانفجار احتجاجا على ما يلحق به من ظلم، مكسّرا الصمت المطبق على واقعه بحدة الأسئلة، رافعا الميزان بوصفه رمزا للعدل في وجه الجميع، مطالبا باستعادة حقوقه المسلوبة حتى يتحقق التوازن في واقعه.
يختزل العرض جزءا من فكر المسرح الثالث، الذي يعد مرحلة مهمة من مراحل تطور المسرح المغربي منذ ثمانينيات القرن الماضي، والذي انبنى على ثلاث مرتكزات هي التاريخ، أو التراث، والزمان، والمكان، مرتكزات يجمع بينها -إن شئنا الاختصار-تصور موحِّد يرصد سيرورة التاريخ من منظور زمني ومكاني محددين، مراقبا التعايش بين مكون التاريخ ومكوني الزمان والمكان، في إطار رؤية تقنية تقوم على أساليب المسرح الفقير وتقنياته.
ووفقا لهذه التصورات نتابع نمو الحبكة الدرامية وفق مسار متسلسل ومترابط يشغل “الميلودي” موقعا مركزيا فيها، بوصفه بطل العرض المسرحي، ويعرض الزمن من خلال استدعاء ذاكرة الحدث الدرامي في استغلال بديع لماضي الشخصية، وتطويعه لتفسير حاضرها وتوقع مستقبلها المعتم.
فواقع “الميلودي” الذي تحول من مالك لأرض واسم وأحلام كبيرة، إلى ساكن في عربة مجرورة لا فرق بينه وبين قطط الشارع، يمكن اعتباره نتيجة للعديد من الأحداث السابقة التي طوحت به مطولا قبل أن تتركه معدما بالكاد يجد ما يحقق له البقاء حيا، هذه الأحداث التي يمتزج فيها تاريخ اجتماعي واقتصادي كامل، والتي يمكن تعميمها على ما حدث للكثيرين مثل “الميلودي” ممن فقدوا أراضيهم وممتلكاتهم بطريقة أو بأخرى، لينتهي بهم المطاف بالمدينة في إطار هجرة قروية قسرية بحثا عن الاستمرار في حياة مُرّة التفاصيل.
يعلق الميلودي، إذن، بين واقع لا يرحم، وأحلام يصعب تحقيقها، وذكريات كلما عاد إليها آلمته، وأسئلة لا يجد لها أجوبة مقنعة، فلا يعبّر عن حالته أوفى تعبير إلا قوله: “في هاد الحياة صعيب تفكر، وصعيب تدوخ” ، هو الذي لا تتحقق له الثمالة والنشوة رغم تعاطيه المتكرر للكيف، ويصير صدق إحساسه بالتدريج مرآة لعمق الألم الذي يعيشه، كما تغدو الحالات النفسية التي يعيشها منذ بداية يومه وصولا إلى حالة التمرد والانفجار في المشهد الختامي، امتدادا متسلسلا لحالات نفسية دقيقة مر بها خلال العرض منذ بدايته.
ختاما، يمكن القول إن مسرحية “ميزان الميلودي” صرخة مجلجلة للأسئلة المقلقة في وجه الصمت المطبق الذي يحاصر طبقات مجتمعية معينة، وصرخة أيضا في وجه تناسي الأسباب التي تقود بعض طبقات المجتمع إلى اتخاذ الشارع مأوى لها، أو ملجأ تعيش فيه رغم قساوته، صرخة قد تحقق بعض التوازن في ميزان مختل.