المسجد العتيق للحي البرتغالي بالجديدة..

معلمة حضارية شامخة شاهدة على حلقات من تاريخ المغرب

كتابة: الحاج عبد المجيد نجدي

يعد المسجد العتيق الواقع في الحي البرتغالي بالجديدة، من أبرز المعالم التاريخية والأثرية الضاربة في أعماق التاريخ، إلى جانب المسقاة وكنيسة الصعود الشهيرة-مسرح الحي حاليا-والزاوية التيجانية وشواهد أخرى من التاريخ البعيد التي لا تزال تحتفظ بأسرار «مزاغان» العريقة وتروي قصتها من جيل إلى جيل. 

يعد المسجد العتيق للحي البرتغالي بالجديدة تحفة هندسية مميزة جمعت بين الجمال والبساطة. وربما كان أول مسجد بني بالمدينة قبل 199 سنة تقريبا أي سنة 1823، بينما كانت المعابد الأخرى بالمدينة القديمة عبارة عن كنائس وبيع يتعبد فيها المعمرون الأوروبيون واليهود المغاربة المستقدمين من آزمور وآسفي، والذين استقروا بالحي البرتغالي ابتداء من سنة 1821 ميلادية٬ بعدما رخص سيدي محمد بن عبد الله لبعض العائلات من قبيلتي أولاد احسين وأولاد الدويب بالسكن بالقلعة البرتغالية مباشرة بعد تحريرها من براثن الاستعمار البرتغالي. و في هذا الصدد، فحسب ما ذكر المولى عبد السلام في " درة السلوك من آثار أبيه السلطان سيدي محمد بن عبد الله" بخصوص البريجة (...كانت قديما بأيدي الروم كما قدمنا و خربها بعد الفتح سنة اثنين و ثمانين و مائة و ألف هجرية (1769م)، و أمر بتجديد عمارتها سنة سبعة و ثلاثين ومائتين وألف هجرية  (12 أكتوبر 1821) ، واتخذ بها ألفا من العسكر من جنود الوصفان، وأدار سورها وعظم بها العمران، فصارت إحدى مدن المغرب، يقصدها التجار من الآفاق، وترد إليها القوافل والرفاق، وترسى بها السفن الجهادية وسفن التجار، فجاءت من  أشرف الحسنات وأعظم الآثار). وقد أشرف فيما بعد عامل المدينة الشريف سيدي محمد بن الطيب على ترميم وإصلاح الحي البرتغالي برمته سنة 1821 ميلادية بأمر من السلطان العلوي مولاي سليمان بن محمد. ومن جديد تم إصلاحها وبأمر من السلطان العلوي مولاي عبد الرحمان بن هشام سنة 1832 ميلادية.

المسجد –الذي بني في موقع مربط للخيول -أقيم فوق مساحة تصل إلى حوالي 1200 متر مربع، منها قاعة للصلاة مغطاة مساحتها حوالي 750 متر مربع وقاعة للصلاة مخصصة للنساء مساحتها حوالي 120 متر مربع ٬ بالإضافة إلى مرفق خارجي صحي وفضاء داخلي للوضوء مساحتهما حوالي 50 متر مربع٬ ومجموعة من الملحقات...

وقد كانت في البداية للمسجد صومعة صغيرة وقصيرة مربعة الأضلاع ذات ارتفاع متوسط وهي أصغر وأقصر مئذنة بالمدينة، لكنها تتفرد بتصميم هندسي مميز. وهي موجودة وقائمة لحد الآن. ويمكن للمرء أن يراها وهو يمر بالزقاق المؤدي إلى الزاوية العيساوية والواجهة الخلفية للمسجد أو من فوق أسطح المباني المجاورة.

وبما أن هذه المئذنة لا تفي بالغرض من حيث سماع صوت المؤذن نظرا لقصرها، فقد اتصل بعض المواطنين القاطنين بالملاح بعامل الجديدة آنذاك السيد محمد بن ٳدريس الجيراري، وطلبوا منه أن يلتمس من السلطان مولاي الحسن الأول باستغلال البرج المعروف ببرج الرباط كصومعة لكي يتسنى لسكان الملاح سماع الآذان. وفعلا، وبأمر من السلطان العلوي مولاي الحسن الأول، حول إلى مئذنة أحد أبراج المراقبة للحصن الأول للقلعة البرتغالية-المعروف عند العامة ببرج الرباط نسبة إلى مربط للخيول الذي بني فوق أرضه المسجد -. وذلك سنة 1298 هجرية الموافق 1880 ميلادية. وهي الصومعة الحالية المجاورة للمسجد. وهي الوحيدة في المغرب التي هي خماسية الأضلاع. ويربط الصومعة بالمسجد جسر يمر فوق قاعة الوضوء والمراحيض الموجودة غرب المسجد.

ولا يزال الجزء القديم للمسجد محافظا على هندسته الإسلامية المغربية إلى غاية اليوم. وكانت أهم عملية للترميم شهدها هذا المسجد قد تمت سنة 1996، بمبادرة من عامل إقليم الجديدة آنذاك السيد أحمد عرفة.  وقد حملت هذه العملية نفس مواصفات القسم القديم، من حيث نوعية البناء والقباب والنوافذ والأبواب والسَقْف. وأدخلت عليه بعض التصاميم الحديثة، لكنها لم تفقده قيمته التاريخية والأثرية الثمينة. 

ومن جهة أخرى، فقد حظي المسجد العتيق بالحي البرتغالي بالجديدة بزيارة السلطان العلوي مولاي الحسن الأول سنة 1875 م، كما زاره جلالة الملك محمد الخامس سنة 1936 م. وقصده أيضا عدة شخصيات أخرى قادمة من داخل وخارج الوطن. 

المسجد العتيق للحي البرتغالي بالجديدة أو "جامع الملاح"،  كما دأب أهل الجديدة على تسميته، لم يكن مجرد بناية تقام فيها الصلوات الخمس، ويرتل فيها القرآن الكريم، ويتعلم فيها الأفراد شؤون الدين والقراءة والكتابة... ، بل كانت هذه المعلمة الحضارية الشامخة ، فضلا عما سبقت الإشارة إليه، عبارة عن مؤسسة جامعية لتلقين مختلف التخصصات الأدبية والعلمية، حيث كان يشرف على الحلقات الدراسية بالمسجد صفوة من العلماء المرموقين من داخل المغرب وخارجه من بينهم العلامة الحاج أحمد بن صالح الحسني الٳدريسي الجديدي المعروف بسيدي أحمد النخل و العلامة أبي شعيب بن محمد بن زيد الدكالي و العلامة السي أحمد التباري و العالم المطلع الخطيب الفصيح سيدي سعيد بن أحمد المعروف بابن الهيبة الدكالي البوعزيزي و الشيخ الفقيه الحاج سيدي ادريس بن المختار التاشفيني و العلامة محمد بن أحمد بن المعطي الحطاب الدكالي الفرجي و العلامة المحدث محمد بن إدريس بن محمد القادري و العلامة مولاي أحمد بن سيدي محمد البحياوي الصديقي... ، وكان هؤلاء العلماء الأجلاء يعطون دروسا وعظية بهذا المسجد، خصوصا في شهر رمضان الكريم، كما كان يتلقى الأطفال في مسيده مبادئ القراءة والكتابة وحفظ القرآن الكريم وبعض المتون الأولية. كما كان يفد عليه طلبة العلم من الداخل والخارج. أما أول إمام عين لهذا المسجد فهو الفقيه الحاج لحسن بن أحمد السوسي دفين مقبرة سيدي أحمد النخل. ثم أسندت الإمامة لعدة فقهاء أبرزهم السي علي بن الطاهر البوعزيزي والسي عبد الرحمان بن إبراهيم الشتوكي والسي عبد العزيز بن التونسي والحاج محمد بن بوشعيب السرغيني ... والسي أحمد بن التومية...

خلاصة القول، إن المسجد العتيق للحي البرتغالي بالجديدة أو "جامع الملاح" يعد ذاكرة متميزة ومعلمة تاريخية شاهدة على جانب كبير من تاريخ مدينة الجديدة/مزاغان وتطورها العمراني، ومنارة علمية توهجت بما ضمته من حلقات متواصلة للعلم والتدريس و الوعظ، وبما تعاقب عليها من علماء وفقهاء ومشايخ من كل الآفاق، وبما تميزت به هذه المنارة من دور في التسامح و التساكن و التعايش، لآنه ـ كما لا يخفى على أحد-هذا المسجد يأتي في موقع يحاذي الكنيسة البرتغالية، كما يجاور بعض بيع اليهود .. وفي ذلك تعبير صريح وواضح عن شيمة مترسخة ومتوارثة في أهل مدينة الجديدة/مزاغان جيلا عن جيل وهي روح التسامح والتساكن والتعايش.