الزاوية التجانية لمدينة الجديدة ..

 

معلمة تاريخية ودينية وروحانية

كتابة وبحث: الحاج عبد المجيد نجدي والمصطفى لخيار

تعتبر الزوايا والأضرحة والمزارات من أهم المعالم التراثية التي تعكس العمق الروحاني الذي تتجذر فيه الهوية الوطنية، كما إنها مصدر ثروات طائلة للسياحة الدينية التي لا تولي لها مدينة الجديدة أية أهمية تذكر، بدليل الإهمال الكامل الذي تعيشه المعالم الصوفية عبر الإقليم. فمثلا بالجديدة حيث زاوية الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد التيجاني، وهو أشهر من أن يذكر نظرا لورعه أيام السلطان العلوي مولاي أبي الربيع سليمان بن محمد بن عبد الله بن إسماعيل بن الشريف، ومع ذلك لا نجد عند مدخل الحي البرتغالي ولا على طول شوارعه وعرضه ولا إشارة واحدة إلى اتجاه الزاوية التيجانية، علما أنها من أهم المعالم الدينية في الجديدة، فهل هذا كله من باب الصدفة؟ مع العلم أن هذه الطريقة التيجانية ممارسة بالجديدة منذ القرن 19 الميلادي، ومع ذلك لا يوجد في الحي البرتغالي ما يدل على الأهمية والقيمة التي تكتسيها الزاوية التيجانية كمعلمة تاريخية ودينية وروحانية. رغم أنها كانت هذه الزاوية بمدينة الجديدة ولا زالت مركز إشعاع فكري وروحي وقبلة للأتباع المنتشرين عبر المغرب وحتى من خارجه.


كانت الزاوية التيجانية بمدينة الجديدة -التي فقدت أشهر مقدم للطريقة التيجانية بالجديدة على الخصوص و دكالة على العموم الشيخ الفقيه الحاج سيدي ادريس بن المختار التاشفيني يوم 7 نونبر  1981 ميلادية عن عمر يناهز 84 سنة- تشع بالأعمال الخيرية ،حيث كانت تستقبل المئات من الزوار والمتبركين، وتتميز بنشاط ديني وتعليمي مكثف، مما مكنها أن تحتل مكانة بارزة في المجالات الدينية و الاجتماعية.
وكانت هذه الزاوية تتوفر على مدرسة لتحفيظ القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وعلوم الفقه والدين لأبناء المنطقة وللطلبة الوافدين إليها من الزائرين والمتبركين من داخل الوطن وخارجه.

سميت الزاوية بالتيجانية نسبة إلى مؤسسها المغربي الأصل الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد التيجاني (سيدي أحمد التيجاني الماضوي المراكشي) الذي تربى وترعرع في كنف أخواله "التجاجنة البربرية" التي قطنت عين ماضي بالجزائر قديما ومنها اشتق لقبه "التِّيجاني".
وولد  الشيخ سيدي أحمد التيجاني سنة 1737 للميلاد بعين ماضي بالجزائر من عائلة مغربية ذات أصول بربرية كانت مستقرة هناك. درس الآداب والعلوم وجاب جل الأقطار العربية في رحلة بحثه عن تلقي العلوم الشرعية وتلهفه لملاقاة المشايخ والعلماء. و استقر نهائيا بمدينة فاس إلى أن وافته المنية سنة 1815 للميلاد. وقبره معلوم إلى اليوم في مدينة فاس.
والشيخ سيدي أحمد التيجاني هو من أسس طريقة الذكر التي يعتمدها اليوم الأتباع والمسماة باسمه والتي تعتمد على ورد يقرؤه الأتباع صباحًا ومساءً، ووظيفة تقرأ في اليوم مرة صباحًا أو مساءً، وذكر ينعقد بعد العصر من يوم الجمعة على أن يكون متصلاً بالغروب، والأخيران، الوظيفة والذكر يحتاجان إلى طهارة مائية أي الوضوء بالماء وليس الاعتماد على التيمم، وهناك العديد من الأوراد الأخرى بمناسبات مختلفة. ومن بين أوراد الطريقة، اللازم، ويُقرأ سرا وانفراديا، مرتين في اليوم، والهيللة، جماعة، بعد عصر يوم الجمعة. وللتيجانية فروع تابعة لها في دكالة بكل من آزمور وهشتوكة والمحارزة وأولاد بوعزيز وأولاد أفرج والحكاكشة وسيدي بنور والزمامرة وأولاد غانم...

يعود تأسيس الزاوية التيجانية بالجديدة إلى أواخر القرن التاسع عشر، وبالضبط سنة 1312 هجرية (1895 ميلادية). و قد أصدر السلطان العلوي مولاي العزيز بن الحسن أمرا في 03 ذي الحجة 1312  إلى قاضي الجديدة آنذاك الفقيه محمد الزريعي بتعيين بقعة من بقاع المخزن داخل الحي البرتغالي كان يستغلها أحد أمناء مرسى الجديدة المسمى الحاج محمد بريحي، حيث كان يخصصها لربط البهائم، و قد تم بناؤها في بداية سنة 1213 هجرية (1896 ميلادية) بفضل المساهمات المادية للأعتاب الشريفة و الحاج عبد الرحمان برق الليل و الحاج التهامي بن شقرون و الحاج أحمد بناني و غيرهم . وقد تأُسست هذه الزاوية بإشارة من الصوفي الشهير سيدي الحاج لحسن بن أحمد السوسي دفين مقبرة سيدي أحمد النخل بالجديدة. كان هذا الأخير يتردد كثيرا على ساكنة ما زاغان، وخاصة العناصر السوسية، وكان يعطي الدروس الوعظية والأوراد لأتباعه ومريديه ويحيي بعض الليالي الدينية داخل كوخ بالقرب من ضريح سيدي الضاوي. وبعد بناء الزاوية بمقرها الحالي داخل الحي البرتغالي، أصبح أول مقدم للزاوية التيجانية هو سيدي الحاج لحسن بن أحمد السوسي وأصبح أول ناظر لها هو السي علي بن الحاج عباس السرغيني.

سيدي الحاج لحسن بن أحمد السوسي هو الفقيه العلامة، الصوفي الزاهد، السوسي أصلا المازاغاني دارا ووفاة، أحد السوسيين البارزين المشهورين في آفاق الطرق الصوفية . ولد عام 1260/1844 وتوفي عام 1362/ 1943. بدأ حفظ القرآن الكريم ببلدته في مدرسة إكضي، ثم بمدرسة تاسيلا أوزاريف، ثم انتقل إلى مدرسة بوعبدلي ثم إلى مدرسة اخليج. وبعد أن تتلمذ على يد فقهاء سوس، شد الرحال إلى فاس، فنزل بمدرسة الصفارين ومكث يأخذ على شيوخها مدة سنتين، ثم غادر ميدان الدراسة والتعلم ليشارط عند القائد المجاهد امحمد التريعي بن المعطي في محلته.

حل بعد ذلك بأولاد بوعزيز وبقي هناك مدة، بعدها انتقل إلى ما زاغان في عام 1308/1890، واستقر بها وكأنه وجد فيها ما لم يجده في غيرها من الأماكن التي نزل بها. وقد استفاد من هذه الرحلة إفادات كثيرة، وحصل له بسبب هذا التجوال، على مستوى الأمكنة والرجال، ما بين قراء وعلماء وصوفية وحكام، ملامح سلوكية وعلمية بارزة، طبعت شخصيته فجعلته متمكنا من الحديث، حسن المحاضرة والاستطرادات اللغوية والقصصية وغيرها، مع ميل إلى الانبساط، متخذا ذلك أسلوبا تربويا لإيناس المريدين والزوار، مع ما يستلزمه ذلك من كرم الضيافة ورفع الحرج بينه وبين خواصه وجلسائه إلى درجة الممازحة اللافتة للنظر. وبهذه المدينة، أسس الزاوية لتربية المريدين وتلقين الأوراد على الطريقة الأحمدية التيجانية، هذه الطريقة التي أخذها عن جملة من الشيوخ، وحصل فيها على الإجازة والإذن من محمود بن محمد البشير حفيد الشيخ التيجاني. و كان الشيخ سيدي الحاج لحسن بن أحمد السوسي سيدا جليلا ذا زهد وسكون، بالصلاح مقرون، حسن العلم والرواية، كثير الدين، جم الحياء، مقدما في إرشاد الخلق، العظيم المنزلة عند الخاصة والعامة، مشارا إليه في التصوف والأسرار الإلهية. وإذا رأوه سكان ما زاغان تزاحموا عليه وتطارحوا على تقبيل يديه، ملازما للذكر وتلاوة القرآن والتهجد سفرا وحضرا، حافظا للسانه، كريم الضيافة من غير تكلف، منبسطا غاية الانبساط، فانتفع به خلق كثير.

وكانت الزاوية التيجانية بالجديدة في أيام الفقيه سيدي ادريس بن المختار التاشفيني تستعد لاستقبال رمضان قبيل حلوله بأيام بتنظيف الزاوية، وفرشها بالسجاد، وتزينيها بالأضواء المتعددة الألوان وتنظيف الأزقة المؤدية لها. كما توّزع بعض المؤونة للأسر المحتاجة. ويولي أهل الزاوية لاستقباله باستعداد روحي متميز. فبمجرد حلول الشهر الفضيل، تبدأ حلقات الذكر وإنشاد القصائد الدينية٬ وتقام عقب فريضة صلاة العشاء صلاة التراويح، حيث كان يستوقفنا التواجد الرمضاني الكثيف داخل الزاوية. وكان الفقيه سيدي ادريس بن المختار التاشفينيي-بصفته مقدم الزاوية-يحرص بعد صلاة التراويح على إقامة الدروس٬ والتي كان ينشّطها كوكبة من خيرة الأساتذة والعلماء. كما كان يحرص على سرد صحيح البخاري. فكانت هذه الدروس تلقى اهتماما من الأفراد لما يلمسونه من أهمية ومدى ارتباطها بواقعهم وإجابتها على أسئلتهم. مع العلم أنه كانت هناك دروس تبرمج للنساء أيضا كانت تؤطرها غالبا زوجة الفقيه الجليل السي الدمناتي...

ومن الحكايات المروية عن المقدم الشيخ الفقيه الحاج سيدي ادريس بن المختار التاشفيني رحمه الله، أن البركة العارف بالله سيدي محمد الطاهر بن سيدي أحمد عمَار حفيد الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد التيجاني رضي الله عنه٬ كان من حين لآخر يشد الرحال إلى ما زاغان/ الجديدة لاستشارته في أمور الزوايا بالمغرب وإفريقيا. كما أن عددا من حفدة الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد التيجاني كانوا ينزلون ضيوفا عنده نظرا لما كانوا يكنون له من محبة وتقدير واحترام.

والشيخ الفقيه الحاج سيدي ادريس بن المختار التاشفيني أخذ التقديم عن سيدي محمد الطاهر بن سيدي أحمد عمَار حفيد الشيخ أبي العباس أحمد بن محمد التيجاني وعينه مقدما على الزاوية وناظرا لها مباشرة بعد وفاة سيدي الحاج لحسن بن أحمد السوسي، في هذا الوقت كان باشا المدينة هو السيد حمو بلعباس الهمامدي٬ وكان هو كذلك تيجانيا يأتي إلى الزاوية كلما سنحت له الفرصة بذلك. فطلب منه المقدم الشيخ الفقيه الحاج سيدي ادريس بن المختار التاشفيني أن يوفر له مواد البناء من أجل إصلاح الزاوية و منزلها، فاستجاب الباشا للطلب وأرسل الاسمنت والزليج وغيرهما. و سهر الشيخ الفقيه الحاج سيدي ادريس بن المختار التاشفيني هو شخصيا على كل مراحل إصلاح الزاوية. . فأشرف على أمور الزاوية و المنزل، فتم بتوفيق من الله إعادة بناء سقف الزاوية، وبناء فناء الزاوية، والمكان المخصص للنساء وزليج الفناء وغير ذلك.

ولما توفي المرحوم الشيخ الفقيه العلامة الحاج سيدي ادريس بن المختار التاشفيني سنة 1981،تم تكليف ابنه الحاج الحسن كمقدم وكناظر للزاوية. أما مقدم الزاوية الحالي فهو السي الحاج محمد محب وناظرها هو السي الحاج أحمد مفتول و إمامها هو مولاي علي حيضر.

و من رواد الزاوية الأجلاء الأوائل، وأحد أعمدتها الصلبة المرحوم الحاج سيدي ابراهيم بو الدْوا الذي كان يحرص كل الحرص على توفير التجهيزات المتعلقة بالزاوية، وتقديم الدعم والمساندة لمريدي الزاوية وفقرائها وضيوفها جزاه الله تعالى عن الجميع كل خير وأكرمه...

الحاج سيدي ابراهيم بوالدْوا  كان يداوم على أعمال إحسانية كثيرة، خصوصا خلال شهر رمضان أو الأعياد وذكرى مولد الرسول محمد صلى الله عليه و سلم. وكان أيضا يساهم في جميع العمليات الإحسانية و الخيرية.

ويكتسي شهر رمضان في الزاوية التيجانية بمدينة الجديدة خصوصية حضارية وسلوكية جديرة بالاهتمام، تجسدها منظومة متكاملة من العادات والتقاليد والقيم، التي تعكس تقديس أهل الزاوية لهذا الشهر، وتَجنُّدهم لتأثيثه بممارسات ذات طابع تعبّدي وسلوكي واجتماعي واقتصادي. شهر رمضان في مدينة الجديدة هو شهر التعبّد و" الرّجوع إلى الله " والعودة إلى النمط التقليدي، سلوكا وأكلا وملبسا، فترى الصائم سخيا، كريما، حريصا على التصدّق وعلى " اللمّة العائلية "، كما تتحوّل الزاوية ليلا إلى حاضرة مضيئة...

تستقبل الزاوية التيجانية روّادها في الأوقات الخمسة وتسطع أنوارها في صلاة العشاء والتراويح بحيث تكتظ بالمصلّين، وهذا ما جعل المصلّين يتوزّعون عبر فضاءات الزاوية الأربعة ما يشعرك بالارتباط الوثيق بين أهل الزاوية وبين دينهم وتمسّكهم بقيمهم ومبادئهم. هذا ويعكف مقدم الزاوية التيجانية على تنظيم الدروس الرمضانية كلّ ليلة قبل صلاة العشاء٬ يؤطرها عضو من أعضاء المجلس العلمي للجديدة، وهي عبارة عن سلسلة من الدروس اليومية تقام خلال أيّام الشهر الكريم٬ بحضور كوكبة من الأساتذة والعلماء من الجديدة ومختلف المناطق المجاورة، حيث تتنوّع غالبا محاور الدروس حول فقه العبادات -فقه المعاملات -الإعجاز العلمي في القرآن الكريم -محبّة الله -زخّات من الفكر الصوفي...

وفي أجواء يميّزها التزايد الكبير من ختام القرآن الكريم، تُحيي الزاوية التيجانية بالجديدة ليلة القدر، حيث تتوافد الجموع الغفيرة من المواطنين من مختلف الربوع لأداء صلاة التهجد وإحياء ليلة القدر٬ سعياً وراء المغفرة والأجر والثواب٬ وسط أجواء إيمانية تتّسم بالروحانية. وتتجلّى مظاهر الاحتفال بالجديدة في إقامة ليلة ٍ دينية لتدارس القرآن وتلاوة الأذكار والصلوات...

وتستقطب الزاوية التيجانية بالجديدة المئات من مُريديها لإحياء ليلة القدر، حيث التقرب من شيخ الزاوية والالتفاف حوله، والأخذ بتوجيهاته بما يخدم المجتمع والمشرب والأمّة جمعاء. و ٳنّ أهمّ ما يميّز ليلة السابع والعشرين في الزاوية هو اعتكاف المريدين وامتلاؤها عن آخرها الى غاية الفجر.