الإسلام دين عالمي يتجه برسالته إلى البشرية كلها، ورسالته تدعو للتعايش الإيجابي بين البشر جميعا في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس – على اختلاف معتقداتهم – وقد أسس القرآن لهذه السماحة بمبادئ متعددة. ولذلك، يؤكد دستور الإسلام على سماحة الإسلام وإنسانيته، والواقع الفعلي للصحابة والتابعين وقادة المسلمين خير شاهد على هذه السماحة.
وغير خاف على أي متعقل بأن الإسلام يهدف إلى التعايش الإيجابي بين البشر جميعا، في جو من الإخاء والتسامح بين كل الناس، بصرف النظر عن أجناسهم وألوانهم ومعتقداتهم؛ فالجميع ينحدرون من نفس واحدة. وعالمنا اليوم في أشد الحاجة إلى التسامح الفعال والتعايش الإيجابي بين الناس أكثر من أي وقت مضى؛ نظرا لأن التقارب بين الثقافات والتفاعل بين الحضارات يزداد يوما بعد يوم بفضل ثورة المعلومات والاتصالات، والثورة التكنولوجية التي أزالت الحواجز الزمانية والمكانية بين الأمم والشعوب، حتى أصبح الجميع يعيشون في قرية كونية كبيرة.
بيد أنه بعد هجمات 11 سبتمبر تصاعد العداء والموقف السلبي تجاه المسلمين عموما في الغرب ، وزاد ظهور داعش من هذا العداء مكونا انطباعا سلبيا عن المسلمين. ولقد أضحى الحديث عن الإسلام يشكل وجبة دسمة في مختلف وسائل الإعلام الغربي و الأحزاب والحركات العنصرية ، والتي برعت في إلصاق تهمة العنف والإرهاب به وبأتباعه، مما فاقم من حدة الاهتمام والمتابعة لكل ما يرتبط بالعالم الإسلامي، الذي أمسى منبع الخوف والريبة بالنسبة إلى الغربيين. ولاشك في أن الإعلام الغربي و الأحزاب والحركات العنصرية، بما يمتلكه من إمكانات جبارة وقوة الجذب والتأثير، قد استطاعوا أن يجعلوا الشأن الإسلامي ضمن اهتمامات الإنسان الغربي، الذي أصبح في الآونة الأخيرة ينظر إلى المسلم في الديار الغربية نظرة حذر وارتياب وخوف. ولذلك، باتت الصور الكاريكاتيرية العنصرية، واللقطات الإعلامية السلبية أكثر الصور انتشارا وذيوعا، وأمست الآلة الإعلامية الغربية و الأحزاب والحركات العنصرية لا يجدون غضاضة في نهج مختلف السبل لعرض الإسلام وتحليله وتصويره بشكل يجعله «معروفا»، وفق طريقتهم، للغربيين، فتكونت من جراء ذلك صور مشوهة عن ديننا تهم كل مجالاته وتعاليمه ومبادئه تكرست في أذهان الغربيين وأمست شيئا مألوفا، فأصبحنا نقرأ ونسمع أوصافا فظيعة وتهما مكذوبة وأراجيف مختلقة توجه ضد الإسلام والمسلمين.
ومع ذلك، ينبغي ألا ننكر أن أفعال وسلوكيات بعض فئات المسلمين تغني -أحيانا- عن مساهمة الإعلام الغربي و الأحزاب والحركات العنصرية في تشويه صورة الإسلام، فتكون تلك التصرفات كافية لكي يحصل الخلط لدى الآخرين بين مبادئ الإسلام وتعاليمه وتصرفات بعض المسلمين التي يتبرأ منها الإسلام والتي تسهم في ترسيخ صور نمطية سلبية عن الإسلام والمسلمين في أذهان الغربيين.
وهكذا، فإن الإعلام الغربي و الأحزاب والحركات العنصرية يصرون على الربط بين ظاهرة الأصولية الإسلامية، وحركة التدين بصفة عامة، مع الإصرار على التركيز على بعض السلبيات، مثل: الغلو والتشدد والتطرف وأحداث العنف، من جانب هذه الجماعات عند الربط بينها وبين الإسلام والمسلمين. فعمليات خطف الرهائن والتفجير وأعمال العنف الناشئة عن سوء الفهم لحقيقة الإسلام في مبادئه وتعاليمه وقيمه، كلها تدفع الإعلام الغربي و الأحزاب والحركات العنصرية إلى استغلالها والتركيز عليها وبالتالي يتم الربط بينها وبين الإسلام. ولعل التنظيمات الجهادية اليوم، مثل داعش وبوكو حرام، أصبحت تقدم نظرة سلبية للمسلمين في عيون المواطنين الأوروبيين، مما يضخم ظاهرة الإسلام فوبيا بشكل مبالغ فيه.
لكن بعض المسلمين الذين يعيشون في هولندة تحركوا بشكل عقلاني لتصحيح صورة الإسلام لدى المجتمع الهولندي.فقاموا بترجمة القرآن الكريم بجودة عالية إلى اللغة الهولندية لكي تساهم هذه الترجمة في فَهم أفضل لرسالة القرآن الكريم. وهذه الترجمة القيمة هدفها الأسمى رفع النٌقاب عن جمال القرآن و محاسنه لمن لم يستطع أن يراها بمنظار اللغة العربية من المسلمين الأعاجم، ويتيسر فهمه عليهم، ويعظم تقديرهم للقرآن، ويستمتعوا بما حواه من نبل المقاصد، وقوٌة الدلائل، وسَموٌ في التعاليم، ووضوح وعمق في العقائد، وطهر ورشد في العبادات، ودفع قوي إلى مكارم الأخلاق. كما أنها تسعى إلى دفع الشبهات التي لفَّقها أعداء الإسلام و متطرفون وألصقوها بالقرآن وتفسيره كذبا وافتًراء، ثم ضلَّلوا بها هؤلاء المسلمين الذين لايحذقون اللسان العربي وهؤلاء الشبان المحدودي المعرفة. ومن تم تنوير غير المسلمين من الأجانب في حقائق الإسلام و تعاليمه، خصوصا في هذا العصر القائم على الدعايات المضللة.
فالإسلام دين يسعى من خلال مبادئه وتعاليمه إلى تربية أتباعه على التسامح إزاء كل الأديان والثقافات، فقد جعل الله الناس جميعا خلفاء في الأرض التي نعيش فوقها، وجعلهم شركاء في المسئولية عنها، ومسئولين عن عمارتها ماديا ومعنويا كما يقول القرآن الكريم:«هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها» (أي: طلب منكم عمارتها وصنع الحضارة فيها)، ومن أجل ذلك ميز الله الإنسان بالعقل وسلحه بالعلم؛ حتى يكون قادرا على أداء مهمته وتحمل مسئولياته في هذه الحياة. ولهذا يوجه القرآن الكريم خطابه إلى العقل الإنساني الذي يعد أجل نعمة أنعم الله بها على الإنسان.
ومن هنا فإن على الإنسان أن يستخدم عقله الاستخدام الأمثل، وفي الوقت نفسه يطلب القرآن من الإنسان أن يمارس حريته التي منحها الله له، والتي هي شرط ضروري لتحمل المسئولية، فالله – عز وجل – لا يرضى لعباده الطاعة الآلية التي تجعل الإنسان عاجزا عن العمل الحر المسئول، فعلى الإنسان إذن أن يحرص على حريته، وألا يبددها فيما يعود عليه وعلى الآخرين بالضرر.
ومن شأن الممارسة المسئولة للحرية أن تجعل المرء على وعي بضرورة إتاحة الفرصة أمام الآخرين لممارسة حريتهم أيضا؛ لأن لهم نفس الحق الذي يطلبه الإنسان لنفسه، وهذا يعني أن العلاقة الإنسانية بين أفراد البشر هي علاقة موجودات حرة يتنازل كل منهم عن قدر من حريته في سبيل قيام مجتمع إنساني يحقق الخير للجميع، وهذا يعني بعبارة أخرى أن هذا المجتمع الإنساني المنشود لن يتحقق على النحو الصحيح إلا إذا ساد التسامح بين أفراده، بمعنى أن يحب كل فرد للآخرين ما يحب لنفسه.
والسماحة الإسلامية عطاء بلا حدود، فليست مجرد كلمة تقال أو شعار يرفع أو صياغة نظرية مجردة، كما أنها ليست مجرد فضيلة إنسانية يتحكم حاكم بمنحها لمن يشاء، أو منعها عمن يشاء، وإنما هي دين مقدس، ووحي سماوي، وبيان نبوي عن هذا الوحي، ومن ثم فالسماحة ثمرة الدين الخالد، والشريعة الخاتمة، وهي منهاج المسلمين إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، ولا غرابة في أن يعلي الإسلام قيمة التسامح، ويؤسس القرآن لهذه القيمة.
وفي هذا التصور الإسلامي تقوم كل عوالم الخلق المادية والنباتية والحيوانية والإنسانية والفكرية، ما عدا الذات الإلهية، على التعدد، والتنوع والتمايز والاختلاف باعتبار هذا التنوع والتعدد والتمايز والاختلاف قانونا إلهيا تكوينيا، وسنة من سنن الله التي لا تبديل لها ولا تحويل، الأمر الذي يستلزم – لبقاء هذه السنة الكونية قائمة ومطردة – تعايش كل الفرقاء المختلفين، وتعارف جميع عوالم الخلق، أي: سيادة خلق السماحة في العلاقات بين الأمم والشعوب، والثقافات والحضارات، والمذاهب والفلسفات، والشرائع والملل والديانات، والأجناس والألوان، واللغات، والقوميات، فبدون السماحة يحل “الصراع” الذي ينهي ويلغي ويفني التعددية محل التعايش والتعارف، الأمر الذي يصادم سنة الله – عز وجل – في الاختلاف والتنوع بكل عوالم المخلوقات. و هكذا،على هذه الرؤية الإسلامية للكون والوجود أقام الإسلام مذهبه في السماحة، باعتبارها فريضة دينية، وضرورة حياتية، لتكون جميع عوالم الخلق على هذا النحو الذي أراده الله.
ولذلك، ففي التأسيس القرآني لهذه الرؤية الإسلامية للكون والوجود نقرأ في آيات الذكر الحكيم: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير »، ولهذا، تتنوع الإنسانية إلى شعوب وقبائل، والسماحة هي السبيل إلى تعايشها وتعارفها في الإطار الإنساني العام. وهذه الأمم والشعوب والقبائل تتنوع أجناسها وألوانها وألسنتها ولغاتها ومن ثم قومياتها كآية من آيات الله، والسماحة هي السبيل لتعايش الأجناس والقوميات في إطار الحضارات الجامعة لشعوب هذه القوميات.
إن مبادرة الإخوة المغاربة الإصلاحيين و المصلحين المتنورين القاطنين بالديار الهولندية بترجمة القرآن الكريم إلى اللغة الهولندية ستساهم بحول الله في تغيير صورة الإسلام في هولندة. ذلك لأنها ستساهم في نشر الوعي بمقاصد الشريعة وقواعدها السمحة، القائمة على الوسطية والاعتدال والتوازن حتى يكون المجتمع الهولندي واع بالمقصد الأسمى للدين الإسلامي، ألا وهو الرحمة بالعالمين، قال الله تعالى: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وحينها نكون قد أسسنا لخطاب إسلامي جاذب يدعو بالقدوة والخلق والجدال الحسن للغربيين وغيرهم من غير معتنقي الإسلام، الى الاستسلام بقناعة ومحبة لدين الله الخالد و روح الإسلام السمحة الجميل الراقي في تعاليمه وأحكامه وأصوله ومقاصده.
إن تسارع الأزمان والتطور الذي تشهده ساحات الحياة المختلفة من العوامل المؤثرة التي ينبغي الاستفادة منها في شتى مناحي حياتنا اليومية وإن أجلّ ما ينبغي أن نفعله هو التعريف بدين الله عز وجل. وفي ذلك قال الله تعالى: « ومن أحسن قولا ممن دعا الى الله وعمل صالحا».
ولذلك، لابد من سلوك الصراط المستقيم ونصوص الوحي الأمين وطريق الأولين في التعريف بهذا الدين العظيم، ومن ذلك عرض الإسلام كما أنزل على الرسول الخاتم محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم. ويكون هذا بنشر تراجم معاني القرآن الكريم وتفسيره والسنة المطهرة وشروحها والكتب النظيفة الخالية من البدع والضلالات، مع التركيز على رد الشبهات وبيان فساد الاستدلال بها، على أن يكون ردهاأايضا يتناسب مع قوة الإسلام في طرح الحجج والبراهين. فينبغي أن يكون القائم بالرد على بصيرة وعلم حتى لا يفسد أكثر مما يصلح. وهذا هو سبيل المؤمنين، قال تعالى: « قل هذه سبيلي أدعو الى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ».
ويجب أن يكون الجدال بالحكمة والموعظة الحسنة وبالتي هي أحسن. وهذا هو سبيل الأنبياء والمرسلين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، قال الله تعالى: « ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين». وقال سبحانه (ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن إلا الذين ظلموا منهم وقولوا آمنا بالذي أُنزل إلينا وأُنزل إليكم وإلهنا وإلهكم واحد ونحن له مسلمون».