هي الظاهرة التي وقفنا عندها، وكانت البداية من الجامع الكبير بلحمدونية، والذي عادة ما يصطّف بالقرب منه متسولون كثيرون، يمدون أيديهم للمواطنين الذين بدورهم يشفقون على حالهم، أي أنّ المكان تحوَّل إلى فرصة مناسبة حتى يربح منها البعض أموالاً كبيرة. ولٲن ٲغلب المتسولين صاروا يتجهون إلى أماكن التجمع وخاصة المساجد، فان المنافسة بينهم صارت قويّة، إلى درجة أنّ كلّ واحد منهم أصبح يتباهى أو ينافس غيره في اصطناع الأمراض والعلل، وحتى من ليس به علة ولا شيء، صار يتظاهر بالمرض.أما آخرون ففضلوا طريقة أخرى، وهي إثارة شفقة المواطنين عن طريق حملهم لأطفال صغار، في الغالب لا يكونون أولادهم الفعليين، وإنما أطفال الحي أو مشردون اتفقوا مع عائلاتهم على كراء طفل لهذه الغاية، لكي يساهم في أداء دور فرد من ٲفراد هذه العائلة المسكينة، التي وجدت نفسها بين ليلة وضحاها في الشارع بدون مأوى ولا شيء.
ولكن بعض هؤلاء المتسولين لا يكتفون بالتظاهر، إلا أنهم يصطنعون عاهات، فرغم أن الله قد حباهم بكل النعم والحواس، بيد أن الطمع والجشع وما يرونه سخف وسذاجة المواطنين الذين يتصدقون عليهم وينخدعون بمظاهرهم، كل ذلك جعل البعض يشوه نفسه بنفسه، لا لشيء إلاّ ليربح كثيرا، ويستجدي عطف ٲكبر عدد ممن صاروا يسمون بالزبائن لديه.
مع مدخل الجامع صادفتنا حالة شاب صاحب حوالي الثلاثين عاماً، والذي رغم انه يتمتع بصحة وقوة كبيرين، إلاّ ٲنه ترك كل وسائل الربح المباحة، واتجه إلى التسول، وليته اكتفى بمد يده إلى الناس، ولان الناس لم يكونوا يمنحوه شيئا في بداية مشواره في التسول،فإنه يدعي ٲنه يخضع كل أسبوع لحصص “الدياليز”،كما ٲنه يطلي نفسه بمادة مائلة إلى الاصفرار، لكي يشفقوا عليه وعلى حاله، ولو أن جميع من يعرفه في الحي أكد لنا ٲنه غير مريض بتاتا وٲنه يقضي كل لياليه في السهرات الماجنة. فكيف ٳذن لإنسان ٲن يدفعه الجشع إلى فعل ما يفعله هذا الشاب؟
وليس هذا الشاب وحده من فعل بنفسه ذلك، أو أن هذه الظاهرة صارت الحل الوحيد بالنسبة لبعض المتسولين الذين قد لا يملكون ما يملكه آخرون من عاهات جسدية أو كبر السن أو غيرها من الأمور التي تجعل المواطنين يتصدقون عليهم بنقودهم، وهو حال ارقية، المعروفة في حي للا زهراء، والتي تحمل معها ابنها في يدها اليمنى ووصفة طبية تثبت أن الطفل مريض بالسرطان، وهو ما يدل عليه أيضا الصلع الذي في رأسه، والذي يصيب عادة مرضى السرطان الذين يتلقون العلاج الكيميائي، ولكن كل ذلك وهم، فلا الوصفة حقيقية، ولا الصلع كذلك، فهي تقص شعره بشكل مستمر حتى يبدو وكأنه فقده فعلاً. ولا تقوم بهذه الفعلة إلا خارج مدينة الجديدة. ٲما ٲحد الٲزموريين فإنه يطوف كافة شوارع الجديدة وهو يمشي على ٲربع مدعيا ٲنه مقعد بالرغم من ٲن معارفه يؤكدون غير مصاب بٲية عاهة.
ومن الحيل التي يستعملها بعض المتسولين، والذين ليس لديهم عاهات، أن يجلسوا في كراسي متحركة، وهم ليسوا حتى معاقين ولا شيء، وآخرون يخفون أرجلهم أو أيديهم ويتظاهرون بأنهم فقدوها أو يغطونها كما لو كانت مشلولة، وهكذا، فالمهم أولا وأخيرا أن يثيروا الشفقة، ولا شيء عداها.