كانت الشهادات عَشْراً، وكان المتدخِّلون مختلفي المشارب؛ صحفيِّين، أقرباء، مُدَبِّرِي الشأن العام، أساتذة، وممثلٍ عن حزبٍ معارضٍ، سبق لبعضِ أعضائه أنْ تَعَرَّضُوا لمُضايقاتٍ، خلال سنوات الرصاص، فشهِدوا على مدى تَفَهُّم الفقيد، حين كان رئيساً لدائرة الجديدة، وزَجْرِه للشَّطط في السلطة، في حقِّ المعارضين.
أجمع المتدخِّلون أَمْرَهُم على فَرادة الفقيد، بذِكْر مناقبه، وسِعة خاطره، وإحسانه فيما كان موكولا به، ومدِّه يَدَ العون. والمغاربةُ، عادةً، لا يُغازلون، ولا يُجِلُّونَ أحداً، جِزَافاً، إلا إذا ثَبُتَ ما يبعث على الإجماع.
كنَّا نعرف، حَقَّ المعرفة، بأنَّ الجامعَ بيننا، نحن المغاربة، هو الدِّينُ القَيِّمُ، وشرعيَّةُ الملِك، ووحدةُ الوطَن، إذ لا خوفَ علينا، ما دُمنا أُشْرِبْنَا في قلوبنا، هذه الثَّوابت الثلاثة، لكنَّ الذي بَذَرَتْهُ الشهاداتُ، في إدراكِنا، كان معطىً جديداً، جعلَنا نُومِنُ بتوسيع فكرة المجتمع المغربي.
بدا لنا، بأنه يكفي أن يجتمع الناس من حول شخصٍ، تكون الجِدِّيَّةُ حجَر الزَّاوية في حياته، لِيَفْطنوا إلى أنَّ هناكَ نسخةً جديدةً، دالَّةً على الأنموذج الوَحْدَوِي، لبُّها الاعترافُ بالجميل، ولِمَ لا الدَّعوةُ إلى مُحاكاته.
مكَّنتنا الشهاداتُ من أن نَتَعَرَّفَ الفقيدَ، أكثر، كما مكَّنتنا من أن نُعَرِّفَ أنفُسَنا، من خلال ما أنصتْنا له، بشأن مناقبَ تَحلَّى بها، الحاج محمد بن أحمد الصُّدَيْقِي، في وَلاَئِه الوطني، وإحسانِه في عمله، الذي سعى، من خلاله، إلى تكريس مَبْدأِ العيش الجِدِّيِّ ضِمن مجتمع مُوَحَّدٍ.
مجموعةُ مداخلات، أُلْقِيَتْ، على شكل شهاداتٍ، سلسلةُ آراءٍ صيغت، بكلمات أناس جاؤوا من كل حدب وصوب، وَسَّعَتْ خيالَنا بشأن النزاهة، والاستقامة، والعمل الجادِّ، والكرم، والعِفَّة، والتدبير المُحكَم…
كانت الكلمات تصوغ ماضي الفقيد، على أنه الأُسْوَةُ، والأُنموذجُ، بالنسبة إلينا، وكانت حصيلةُ الفقيد، الحاج محمد بن أحمد الصُّدَيْقِي، بمثابةِ فِعلٍ مؤثِّرٍ فينا، نَفَذَتْ إلى تَصَوُّرِنا لِمُستقبلِنا، عبر ماضيه هو، وعبر حاضرِنا نحن، كأنه أمرَنا بالتَّحَلِّي بمَكارم أخلاقِه، فلبَّيْنا طائعين.
رحَل الرجل الهادئ، الصموتُ صمتَ الأجلاَّء، رحل في صمتٍ، لكن رحيلَه آسَفَ الأُلُوفَ، كما يفعل ذَوُو الأقدار، والمَقامات. مِثْلُه، أنْ يُشَيَّعُوا إلى منزل رَقْدَتِهِمُ الأخيرة، في مقبرة باب اغمات، في مراكش، نزولا عند رغبتِه، حيث وُورِيَتْ جثامينُ العلماءِ، والصُّوفيةِ، والفقهاءِ، والشعراءِ، والفلاسفةِ، وأهلِ الحَلِّ والعَقْدِ…
الرجلُ البشوشُ، الطيِّبُ المَعْشَر، الذي تَلَذُّ معه الجلساتُ، على فِنجانٍ وحديثٍ شائقٍ، ماتِعٍ، رحل. فَمِنْ أين لِجلسةٍ على فنجانٍ وحديثٍ، بعد الآن، لو لم يُنْجِبِ الفقيدُ نَجْلَيْنِ مُخْلِصَيْن لِمناقِبِه؛ مِلْحُهُمَا هو ما بإمكانه أنْ يُمْرِئَ الجَلْسَةَ، ويُسِيغَها في القلب والروح؟
الرجلُ، الذي تغمُر الابتسامةُ محيَّاه، كان بَسَّاماً في وجوه الناس، وكانت ابتسامَتُه تنشر أريجَها في جُلَسائه، صاعِدةً من الشَّغَافِ، مِن غير تَصَنُّعٍ، أو إقرافٍ، رحلْ. فمِن أين لابتسامة الثَّغر الألْيَقِ، والمَعدِن الأصْدَقِ، أنْ تَسِيلَ في عذوبتها كالماء السلسبيل، لو لم نَحْظَ بِتعرُّف نَجْلَيْه؟
الرجلُ المدبِّر، الذي كان يَحْنَقُ على ذوي المَلْقِ، والاِنْتِهَازِ، ويَمُجُّ الغِيبَةَ، والافتراءَ، فيُقابلُ ذويهِما بالاِسْتِشْنَاع، والاشمئزاز، ويقدَح في سوء نوايا المَشَّاءِ بِنَميمٍ، رحل. فمِن أين للفضيلة أنْ تُشْهِرَ لسانَها في جيوش الرَّذيلة، بعده، فَتُنَظِّف الكلامَ من خَبائثِه، في مِيضَأَةِ العِفَّة، لو لم يترك، هو ومَنْ على شاكِلَتِه، في الناس، مَنْ يُشبه نَجْلَيْهِ؟
أيها الراحلُ عنا بعيداً، ها نحن قد أَقَمْنَا لَكَ صرحاً، في قلوبنا، نبتهل الله فيه، أنْ يَتَغَمَّدَكَ بواسع رحمتِه، ويَشْمَلَك برضاه، ونرجوه أن يتقبَّل منَّا، ويستجيب.